“كن جشعاً عندما يشعر الآخرون بالفزع”.. هذه المقولة الشهيرة للملياردير ورئيس شركة “بيركشاير هاثاواي”، وارن بافيت، لم تكن مجرد كلمات، بل استراتيجية محكمة قادته إلى تحقيق واحدة من أكبر الثروات في العالم. لطالما عرف بافيت كيفية استغلال الأزمات، إذ ينتظر انهيارات سوق الأسهم ليقوم بالشراء في الوقت الذي يتخوف فيه الجميع.
استراتيجية بافيت في 2024: البيع عند الانتعاش والاحتفاظ بالنقد
خلال عام 2024، اتخذ بافيت خطوة غير متوقعة؛ إذ قام ببيع أسهم بقيمة 321 مليار دولار في وقت كان السوق يشهد حالة من الانتعاش. وعلى عكس المتوقع، لم يُعد استثمار هذه الأموال فوراً، بل احتفظ بها على شكل سيولة نقدية. هذه الخطوة التي استغربها الكثيرون في حينها، كشفت لاحقاً عن رؤية ثاقبة، حيث انهار السوق في نهاية المطاف مسجلاً خسائر ضخمة.
أسباب الانهيار وخسائر بالمليارات
الانهيار جاء بعد إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب فرض تعريفات جمركية على الواردات من عدة دول، أعقبه تهديدات من دول أخرى بالرد. هذا التصعيد التجاري أدى إلى تبخر ما يصل إلى 5 تريليونات دولار من مؤشر “ستاندرد آند بورز 500” خلال يومي الخميس والجمعة، وهو ما يزيد عن ضعف القيمة السوقية لشركة إنفيديا.
حتى بعض أسهم بافيت المفضلة لم تسلم، حيث انخفضت أسهم أبل، وأميركان إكسبريس، وبنك أوف أميركا، وأوكسيدنتال بتروليوم بأكثر من 15% خلال يومين فقط.
صمت تكتيكي وتحركات محسوبة
في ظل هذه الأحداث، اختار وارن بافيت الصمت. وأكدت سكرتيرته، ديبي بوسانيك، أنه لن يُجري مقابلات، بل سيحتفظ بتعليقاته لجلسة الأسئلة والأجوبة المقررة في 3 مايو المقبل، والتي تسبق الاجتماع السنوي لشركة بيركشاير.
هذا الصمت لا يعني الجمود، بل يعكس الاستراتيجية التي اعتادها بافيت، إذ يُعرف عنه استغلال الأزمات الاقتصادية لشراء شركات بقيم منخفضة. ففي الأزمة المالية بين عامي 2008 و2009، استثمر 26 مليار دولار في خمس صفقات رئيسية.
فرص نادرة في الأزمات
في رسالته للمساهمين عام 2017، أشار بافيت إلى أن عمليات البيع الحادة تخلق “فرصاً استثنائية” للمستثمرين الذين يحافظون على هدوئهم. واستشهد بكلمات الكاتب روديارد كبلينج: “حافظ على هدوئك عندما يفقد الجميع من حولك رباطة جأشهم”.
لكن رغم هذه الاستراتيجية، فإن ارتفاع التقييمات السوقية في السنوات الأخيرة جعل من الصعب على بافيت شراء الأسهم أو حتى الاستحواذ على شركات، بل وحتى إعادة شراء أسهم شركته الخاصة.
السيولة تتضاعف.. وبافيت يزداد ثراءً
خلال العامين الماضيين، قام بافيت ببيع أسهم بقيمة صافية بلغت 158 مليار دولار، ما أدى إلى تضاعف السيولة النقدية لدى “بيركشاير” تقريباً ثلاث مرات، من أقل من 110 مليارات دولار في سبتمبر 2022 إلى 321 مليار دولار بنهاية 2024. هذه القيمة تتجاوز حتى القيمة السوقية لشركة كوكاكولا.
بفضل هذه الاستراتيجية، أصبح بافيت في موقع مثالي للعودة بقوة إلى السوق وشراء الأسهم بأسعار زهيدة. وقد كافأته “وول ستريت” على هذه الخطوة، حيث ارتفع سعر سهم بيركشاير بنحو 9% خلال عام 2024، متفوقاً على انخفاض مؤشر “ستاندرد آند بورز” بنسبة 14%.
صعود في الترتيب العالمي للأثرياء
الارتفاع في سعر سهم بيركشاير أضاف 23 مليار دولار إلى ثروة بافيت الشخصية، ما ساعده في التقدم على قائمة أغنى أغنياء العالم، متجاوزاً كل من برنارد أرنو من شركة LVMH، ولاري إليسون من أوراكل.
ومع ذلك، لا يُتوقع أن يتسرع بافيت، إذ يشتهر بالصبر والانضباط. وقد صرّح الخبير المالي ستيفن تشيك لموقع “بيزنس إنسايدر” أن انخفاض الأسعار يُحفز بافيت على الشراء، إلا إذا رأى أن هناك ضرراً دائماً يفوق مجرد انخفاض مؤقت في الأسعار.
هل يتحرك بافيت قريباً؟ الخبراء يراقبون عن كثب
يُشرف ستيفن تشيك، بصفته الرئيس التنفيذي لشركة “تشيك كابيتال مانجمنت”، على أصول تبلغ 2 مليار دولار، وقد حضر جميع اجتماعات بيركشاير السنوية منذ عام 1996. ورغم تراجع السوق، يرى أن بافيت ربما يحتاج إلى انخفاض أكبر بكثير قبل أن يُقدم على شراء كبير، وربما يقوم بالشراء دون أن يعلم أحد.
من جانبه، قال أستاذ الاقتصاد التطبيقي بجامعة “جونز هوبكنز”، ستيف هانكي، إنه يُراقب خطوة بافيت التالية باهتمام بالغ، لأنها قد تكشف الكثير عن الاتجاه الذي يعتقد بافيت أن الاقتصاد يتجه نحوه.
هل يشتري أم ينتظر؟
يرى هانكي أنه إذا بدأ بافيت الشراء، فهذا يعني أنه يعتبر التعريفات الجمركية التي فرضها ترامب مجرد “إزعاج اقتصادي بسيط” خلق فرص شراء ممتازة. أما إذا اختار التريث، فقد يكون ذلك لأنه يستحضر في ذاكرته تعريفات سموت-هاولي التي فُرضت في مارس 1930، والتي كانت من العوامل التي ساهمت في الكساد العظيم.
ويخلص هانكي إلى أن الاحتمال الأكبر هو أن بافيت، بمعرفته العميقة بالتاريخ الاقتصادي، سيبقى على الهامش مؤقتاً حتى تتضح الصورة، وقد تكون لحظة الشراء المناسبة قادمة إذا استمر انهيار الأسواق.